هل أتاك حديثُ الخوف جهارًا ؟
لم أكن يومًا خاليةً من الخوف، لكنني كنت بارعة في إخفائه، منذ صغري وأنا أبتلعه بصمتٍ محكم، فلا ينكشف منّي الضعف، تعايشتُ معه طويلاً كمن يُجيد الإنكار، ليس من اجل شيء، ولكن طلبًا للنجاة
يمكنك قراءة النسخة الانجليزية هنا..بدآت اخُط ما يدور في خلدي شيئا فشيئا، انشرها على هذه المدونة الخاصة حسب ما يخيم علي من مشاعر، وأترك لقلمي أن يقول ما لا أُجيد قوله بصوتٍ عالٍ، فلم اكتب هذه المقالات بناءا على طلب من احد الجهات الناشرة، وانما من رغبة شخصية خالصة، ادون هنا من اجل نفسي، وانا امضي في رحلة التعافي والبحث عن الذات.. أستلهم في ذلك ما وصفه هاروكي موراكامي عن الكتابة كغوصٍ في أعماق النفس.
خوفي لم يولد في لحظة الثورة، ولا في فورة رعب داخل زنزانة رقم 8 في سجن النساء، حيث قبعتُ طويلاً. بل هو خوف قديم، نما في الطفولة، حين لم أحظَ بطفولة هادئة يُحتذى بها، أذكر وجه أبي حين أعلن طلاقه من أمي، ولم أكن حينها قد تجاوزت السادسة، في تلك اللحظة، انكسر شيء داخلي لم يُصلح حتى اليوم، كان وجهه ممتلئًا بسلطة القرار، وكانت أمي مذهولة أمام الجميع وبلا سند، مجردة من كل شيء، إلا من حفنة جنيهات لا تكفي لخبز يوم واحد، وصغارٍ يأوون إلى صدرها.
شاهدته يضغط عليها حتى ترضخ، وعمي يهدد بإلقاء شقيقتي الصغرى من اعلى طابق بالبناية حيث كنا نقطن إن لم تخضع لهما امي، ومنذ تلك اللحظة، لم أعد طفلة، ولم يعد العالم آمنًا.. صار الخوف جزءًا من تكويني، ورفيقًا لا يفارق.
الشارع .. تمارين يومية على البقاء..
في شوارع القاهرة، كان الخوف تدريبًا يوميًّا على النجاة، في الحيّ الشعبي الذي كبرت فيه، كنت أُجيد رسم الخطط الدفاعية في رأسي مع كل خطوة خارج المنزل، ماذا سأفعل إن تحرّش بي أحدهم؟ كيف سأواجه الهمس أو اللمس أو النظرات التي تخترق ملابسي لتستقر على جسدي؟
كنت أخشى جسدي وأكرهه، ثم أحنو عليه سرًّا لأنه ظلّ صامدًا، صار الخوف ظلي، حتى اصبحتُ ماهرة في ابتلاعه دون أن يدركني أحد
ثم جاءت الثورة، وبدت كنافذة الخلاص لنا نحن النساء، اللواتي يحملن الخوف في صدورنهن اينما حللنا، كانت الثورة لنا أكثر من حدث سياسي؛ كانت وعدًا سريًّا بالخلاص، وجدنا فيها مساحةً لحلم مشترك أن ننتصر على الخوف. عبرتُ خلالها إلى وجهٍ آخر للوطن، وإلى وجهٍ آخر من ذاتي، لوهلة، خُيّل إليّ أن التهديد انزاح، وأن هذا البلد بات أخيرًا ملكاً لنا، كنت أظن أنني على أعتاب حياة بلا فزع.
لكن الواقع لم يكن كما تأملت، لم أنل الحياة التي حلمت بها، ظلّ الخوف يلازمني حتى في منزلي، كنت أعيش تحت وطأة انفعال أبي المفرط، فخيم الوجوم على ملامحي، بينما الارتعاش والخذلان يسكنان روحي في صمت، وخلف ذلك الثبات المزيّف، كانت كل صفعة وكل إهانة اتلقاها تُعيدني إلى جوهر ما كنت اخشاه دومًا، ان يظهر الخوف على ملامحي فيسكنها للابد.
كانت الثورة، رغم كل شيء، انتصاري الوحيد، انتصارٌ شخصيّ، خاصّ، شاركتني فيه ملايين الفتيات، كلٌّ تحمل قصّتها وندوبها، نخرج إلى الميادين لا فقط من أجل الحرية، بل من أجل النجاة، واملاً في المقاومة، املاً في هزيمة الخوف من الاب المُعنِف، ومن مجتمعٍ يقيّدنا ويُديننا، يتواطىء مع المتحرش، وينتصر للجاني.
تعلّقت بذلك الانتصار الذي تحقق بالثورة والذى شهدته يذوب يوما تلو الاخر حتى صار اقرب الى الحلم كلما تذكرناه، فتمسّكت بالحلم الآخر أن أكون صحفية، وألا يخشى قلمي سلطانًا ولا سلطة، أن انتصر للحرية والانسانية، وقد كُنت وما زلت، ولكن الثمن لم يكن يسيرًا. فلم يكن التعذيب وانتهاك جسدي والملاحقة هُم الأقسى، بل ذلك الخوف الكامن في صدري، حينها فقط ادركت ان خوفي لم يعرف طريقه الى الزوال، بل كان يُؤجَّل.
السجن: حيث التماسك القسري حين يبلغ الخوف ذروته..
في زنزانة رقم ٨، التقيت الخوف وجهًا لوجه، كنت أعلم أنه يترصّد بي، يتحين لحظة ضعف تهيمن عليّ كي ينقض، فارتديت درع التماسك كي لا يشم ضعفي المتربصين المتخفيين في هيئة بشر، دربت عقلي على مواجهة التعذيب والانتهاك والمحاولات المضنية لسحق الكرامة. لم تكن صديقات الزنزانة يدرين أنني أقاتل داخليًا لأبدو ثابتة، بيد لهن انني امرأة لا تهتز، بينما كنت أروض الخوف داخلي، كبر داخلي الكراهية لجسدي، وامتزجت بالخوف والغضب، وبقيت متوهمة انني أعيش، بينما كنت فقط أنجو يوماً بيوم.
المنفى… خوفٌ بلغةٍ أخرى..
حين خرجت من السجن، ظننت أنني نجوت، وخلفت خوفي خلفي، لكن جاء المنفى ليكشف عن وجه اكثر شراسة للخوف، ظننت أن باريس ستمنحني الأمان، تلك المدينة التي تبدو انيقة من بعيد، لكنها في واقع الامر مفعمة بالقسوة، لقد فتحت أبوابًا جديدة للخوف، من الرفض، من الوحدة، من العجز، من البدء من جديد، ومن أن أبقى طويلاً في منتصف الطريق دون أن أصل.
وهنا التحقتُ بمن سبقني إلى المنفى، حينما انتقلت للسكن في احدى المدن جنوب فرنسا، فربطتنا صداقة نسجها الشتات، صرنا نسير الخطى ذاتها، نتلمّس الطريق ذاته، نحمل الخوف ذاته، نخشى أن نخفق في فهم العالم الجديد بعد ان زُج بنا داخله، وأن لا يقبلنا المجتمع هنا، خوف من ألا نجد نهاية للتيه بين اللغات والثقافات، وبين المعايير والقوانين، خشية أن نْنسى، او أن نٌمحى.
صرنا نتعثّر كل لحظة، خشية أن يُباغتنا الاشتياق في لحظة ضعف، أن نحتاج أمهاتنا وأخواتنا، ولا نجد صدورهن نلوذ بها. نتدرب على كتمان الإرهاق، كي لا يفضحنا صوتٌ مرتجف في مكالمة عابرة، أو تنهيدةٌ لا نملك لها تفسيرًا، وبات الخوف من الإخفاق في إخفاء احتياجنا إليهم يطاردنا كما لو كان ذنبًا .
وسأعود إلى الاغتراب في كتابةٍ أخرى، علني أتمكن من التعبير بتفصيل أعمق عن أزمات الهوية، وذلك التيه الذي يلازمنا في الشتات..
ذات ليلة، انفجر فيّ الوحش الذي كبتهُ، كاد يفتك بيّ، تملكني الخوف بكل قسوته، لم يصمد جسدي هذه المرة كما صمد في الزنزانة سابقا، سمعت صوتًا في رأسي يصرخ: "لن تفرّي منّي مجددًا"، كنت أركض في المنزل وحدي، انتحب وارتطم بالجدران، كنت استجديها لتحميني من نفسي بينما جسدي يرتجف، أستمع لصوتًا داخليًا يلاحقني: "لم أعد أسمح لكِ بتجاهلي أنا الخوف الذي طالما أنكرتِ وجوده، الآن أنا هنا، وسأتملكك" في تلك الليلة، أدركت حقيقة كنت اظن أنني أفلتّ منها: أنا لم أواجه خوفي يومًا، كنت فقط أؤجّل لقاءه. اخبرتني طبيبتي النفسية لاحقا إن ما وقع لي يسمى نوبة "تروما"، لكنني كنت أعلم في قرارة نفسي أنها مواجهة مؤجّلة بيني وبين وحش كبر في صدري..
الأمومة في المنفى… حين يُصبح الحب وجهاً آخر للخوف..
كلاجئات سياسيات ومهاجرات، يُثقل كاهلنا أعباء مضاعفة، ونتجرّع وجوهًا شتّى من مرارة الاغتراب، نعيش الخوف لا من أجل أنفسنا فقط، بل من أجل أطفالٍ ننشئهم في أرضٍ لا تُشبه أرضنا، هنا في فرنسا، وجدتني أُواجه مصير أمي وجدتي، الفلسطينيتين، ورثتُ المنفى وورّثتُه لصغيري دون أن أملك ترف التهيئة أو الاختيار، مضيت بابني على الدرب ذاته.
ومع كل صباح، يتسلّل إلى داخلي سؤال ينهشني: كأم عزباء كما يلقبوننا، هل أنا أم صالحة؟ أم كأم منهكة، توبّخه أحيانًا خوفًا عليه، فتُغضبه؟ هل سيكره فيَّ تلك الحدة التي زرعها الخوف في ملامحي؟ فصار الخوف في قلبي مضاعفاً وربما افسد عليه حياته
صرت أسأله على الدوام: "هل أنت راضٍ عن أمك؟" وليس في هذا السؤال بساطته، بل هو اعتراف ضمني بمخزونٍ هائل بداخلي من الخوف، خوفٍ من ألا أكون كافية وانا أتنقل بين الادوار كلها، الام، والجدة، والخالة، والعائلة والوطن. بت اسأل نفسي! كيف لامرأة تقاتل خوفها منذ الطفولة أن تُربّي طفلًا لا يهاب شيء؟ هل سأُورّثه ما كنتُ أهرب منه طيلة حياتي؟ كيف لنا ألا نخاف من ألا نكون في عيون أبنائنا، كما نُحبّ أن نُرى؟
الصداقات: الوحدة المتخفية..
في الغربة، تعرّفتُ إلى خوفٍ من نوع آخر، خوفٍ لا يصرخ، بل يهمس في الداخل، ماذا لو لم أجد من أضع رأسي على كتفيه دون أن يخذلني؟ ففي لحظة ما نظن نحن أبناء المنفى أن تشابه الجروح كافٍ ليصنع صداقات وطيدة تُشبهنا، لكنني تعلّمت بعد خيبات متكررة، أن لا أحد يشبهك تمامًا حين يُعرى ضعفك، فقد لا يُقابَل بالعطف او بالمؤازرة، بل في أحايين كثيرة يُقابَل بالشماتة.
توهّمت يومًا أنني وجدت أولئك اللواتي سيُمسكن بيدي إذا تهاويت، لكنني، في لحظة انهاك، اكتشفت أن بعضهن كان ينتظر سقوطي لا ليمسك بي، بل ليشهد!
تعلّمت حينها أن الوحدة ليست في غياب الرفاق، بل في غياب الأمان معهم/ن، وُلد في داخلي خوفٌ من الثقة، من الحب، ومن الانكشاف، بتُّ لا اثق في التعبير عن ضعفي أمام أحد، وبإظهار ارتجافة في الصوت أو دمعة في الاحداق.
الحاضر: مواجهة لا تنتهي..
اليوم، وأنا واقترب من الأربعين، أعيش مع هذا الخوف كرفيق قديم يُغيّر هيئته مع الزمن، ويتسلل في ثياب الحكمة أحيانًا، أراه كل يوم في ملامحي، في تجاعيد وجهي، في جسدي الهزيل الذي ارهقته الخيبات والتجارب. لكنني على الاقل اليوم بتُ أعرفه، وأحاوره، فلم يعد غريبًا عني، بل شريك طريق، وكلما ظننت أنني تخلصت منه، أدركت أنني فقط أبدّلت مكانه.
وما أدركته عن نفسي، أدركته أيضًا عن كُثر حولي يشبهونني، ففي كل مرة نظن أننا تخلّصنا من خوفٍ قديم، نجد أنفسنا نُفسح مكانًا لخوفٍ جديد، فالخوف لا يرحل، بل يتبدّل، يُعيد تشكيل نفسه بلغاتٍ جديدة، وبملامح تُشبه كل مرحلة نمرّ بها. صار الخوف جزءًا من ذاكرتنا الجمعية، يسكن في أجسادنا، وفي لهجتنا حين نتكلم، وفي قسوتنا على أنفسنا وعلى أبنائنا.
اكتب هذا اليوم اليّ، والى رفقائي في الشتات الذين يعيشون تلك التفاصيل كل برهة، فأمنح نفسي واياهم دعماً واعترافًا مشتركاً. وربما، فقط ربما، حين أكتب عن خوفي اليوم، أبدأ أخيرًا في ترويضه جهارًا..
