"دفتر النجاة الأخير.. رثاء إلى التي لم تُنصف نفسها"
عن الكتابة التي هي عزائي، وعن الصوت الذي تأخّر في الوصول.. وفي لحظة صدقٍ مع الذات، كتبتُ هذا المقال.. لا لأستجدي شيئًا، بل لأُنصف نفسي، ولو مرة
يمكنك قراءة المقال باللغة الانجليزية من هنا.."هذه السطور هي أولى حلقات سلسلة مقالات وتقارير ستُنشر تباعًا؛ تحمل صوتي، وتمثّل أرواح كثيرة أرهقُها الصمت.. وبداية لما آن له أن يُقال".
يسكنني هذه الأيام شعورٌ غائر، شعور بانعدام التقدير الذي لطالما رجوت حضوره، ولم أنله. أكتب هذه السطور وقلبي مُثقل، لا لأنني لا أعرف الحقيقة، بل لأنني أعرفها جيدًا والان.. اشاركها علناً. أعرف أيضًا أنني لا أستطيع أن أبوح بكل ما يدور في خلدي، فعزة نفسي تأبى، وكبريائي لا يسمح بأن أضع جراحي على الطاولة، حتى وإن اشتدت.
هذه الأيام، ينهكني شعور بأنني قدمت الكثير، ولم أطلب شيئًا، واقسم انني لم أنتظر، لكنّ شيئًا في أعماقي كان يرجو التقدير، التقدير وحسب. طوال سنوات حياتي وهبتُ نفسي لمهنتي، اوثق بكل جوارحي، كتبتُ بكل ما أوتيت من صدق، عن أولئك الذين لا يملكون صوتًا، ولا نافذة نحو العالم.
لم يكن شغفي يومًا سوى في أن أوصل صوتًا الى الجانب الاخر، ولم يكن "الجانب الآخر" في كتاباتي بلادًا بعيدة فقط، بل كان كثيرًا من الأحايين الجالس إلى جوار من يروي حكايته، لكنه لا يُنصت.
أكتب لمن أغلق عينيه بإرادته، ولمن جَمّد مشاعره، حملتُ معي قصص وطني الذي لفظني، نعم، لكنه يسكنني رغم النفي، وطُفتُ بهذه القصص بلدانًا كثيرة، أبحث لها عن عينٍ رحيمة، وأذنٍ تُنصت.
ولكن.. ما زالت روحي هناك، عالقة بين أزقة القاهرة القديمة قبل أن تُهدم، وفي شارع القصر العيني حين كان ينتهي بالتحرير، حيث الألم والوعي، وفي زنزانة رقم ٨، التي احتضنتني أعوامًا، وبقي فيها أحبابٌ ما زالوا هناك قابعين .. إلى هذه اللحظة.
أكتب إليّ .. كي أرثي نفسي، تلك التي حلمت أن تصل يومًا إلى هذا العمر، بوظيفة تمنحها الأمان، ومساحة للكتابة، أكتب لأنني منذ خروجي من "الوجه الآخر للموت"، لم أفعل شيئًا سوى أنني أكتب
أحكي عن كل من تركتهم هناك في وطني، ومن هم تحت الأرض في زنازينهم قابعين، ادون لأكون مرآتهم كي تبقى ملامحهم حاضرة حين يُطفأ النور عن وجودهم.
ففي مراتٍ كثيرة، استُخدمت قصتي بطريقة لا تشبهني، لكنني غضضتُ الطرف، فقط من أجل أن أُكمل مهمتي. وفي مراتٍ أخرى، امتدت لي أيادٍ طيّبة، ففتحت لي أبوابًا وظللت أقول لنفسي: أأستحق كل هذا؟! لكن برغم اي شيء سأكمل الطريق. ولكن بعد اكثر من خمسة عشر عامًا من العمل، بلا هوادة ودون استسلام، وبلا مهنة أخرى، أسأل نفسي اليوم سؤالًا يؤلمني: لماذا؟
لماذا لم أحصل على وظيفة تمنحني الأمان؟ لماذا لا أملك المساحة التي أستحقها لأوثق وأكتب، لأصنع أثرًا يُشبهني؟ قدّمت مئات الطلبات، بحثًا عن فرصة تحقق لي شغفي واستقراري، ومع كل رد بالرفض، يظلّ الصوت بداخلي يتردد : ربما لا تستحقين، وربما، في نظرهم، لستِ كفؤًا بما يكفي.
اقف وأفكّر ملياً في ذلك الصوت، واتسائل! هل اخلصت؟ رغم أنني أعلم جيدًا أنني أخلصت، أخلصت لمهنتي حتى أُفرغت من نفسي شيئًا فشيئًا، لأكثر من عقد من العمر دون تردد.
واليوم، لم أعد قادرة على مقاومة ذلك الصوت.. لذا قررت ان أكتب ليّ.. لنا
سأدوّن من خلال هذه المدونة، لا لأستعرض او استجدي عطفاً، بل لألقي الحكايات الثقيلة من هذه النافذة الإلكترونية إلى هذا العالم المتخم بالصمت، قررت أن أشارك الألم، ذلك الألم الذي لم يُسمع، أو الذي سُمع ثم أُسكت، وتُجاهل عمدًا.
سأكتب عني وعن آخرين اشبههم، أولئك الذين ما زالوا يفتّشون عن ذواتهم في ضباب الحياة والشتات، الذين يطاردون الأمان كما لو كان شبحًا، الذين منحوا التقدير للجميع ونسوا أنفسهم. سأكتب علّني أتخفف من ذلك الذنب الذي إلتهم قلبي، أنني تغاضيتُ طويلًا عن حق بسيط حلمت به، حقّي في التقدير، في مساحة تُشبهني.
لطالما ظننت أن صمتي صمود، لكنني اليوم أدركت أنني كنت أؤذي نفسي بصمتي.. لقد اخذت على عاتقي أن أكون صوتًا لمن لا صوت له، ونسيت أن لي أنا أيضًا صوتٌ يستحق أن يُسمع. وهبني الله هذه الرسالة، أن أكون مرآةً لحكايات تستحق أن تُروى، أن أكون يدًا تُمسك بالقصة من قاع النسيان وتضعها أمام النور. لكنني اكتشفت، مع الوقت، أنني لا أنقل عنهم فقط، فأنا أنتمي إليهم، أنا واحدة من تلك الأرواح المتعبة، التي لم تجد مكانًا، رغم اتساع الأرض.
ومن هنا ستكون الانطلاقة، بناء منصة تعبّر عني، وعن كُثر يشبهونني في خيباتهم وأحلامهم.. من خلال هذه النافذة الإلكترونية، سأكمل مشروع لطالما حلمتُ يوماً أن يرى النور بلا أقنعة.. بلا شروط
حُلمي الذي لا أريد له أن يُختزل في شعارات براقة، ولا أن يُستغل تحت راية "الدعم" الزائف، ذاك الذي يُمنح للصحفيين المنفيّين كما لو كان صدقة لعابر سبيل، سيتاح من تلك المنصة التي هي قيد التآسيس، موطئ قدم لكل من خُذل وهو يحاول فقط أن يكون صادقًا مع نفسه.
لكل من دُفع خارج المشهد لأنه لم يجامل، أو لأنه لم يصمت. سأكتب عن أولئك الذين يعيشون الأمومة في المنفى، عن النساء اللواتي يحملن أطفالهن وقلوبهن في حقيبة سفر، وعن التائهين في بلادٍ لم ترحب بهم.
سأكتب عن المنفى، لا كجغرافيا، بل كحالة نفسية مزمنة، كمعركة وجود، كقيدٍ شفاف لا يُرى، عن المهاجرين واللاجئين السياسيين، عن العالقين بين وطنٍ لفظهم ووطنٍ اخر لا يعترف بهم، عن الذين يستيقظون كل صباح ليحاولوا رسم ملامح لهوية لا يجدون لها مرآة. أكتب.. لا لأسجّل فقط، بل لأفي دَينًا لطالما أجلته، دينٌ تجاه نفسي، تجاه تلك الفتاة التي ركضت طويلاً خلف شغفها حتى أصبحت أمًا ولا زالت تحلم بموضع قدم ثابت، وبأمان لم تعرفه بعد.
وإذا ما لفظتُ أنفاسي الأخيرة يومًا ما، أرجو فقط أن يكون صوتي قد نصفني ولو لمرة، أن أكون قد سددت ديني لنفسي، وحكيت عن التي حلمت، وانتظرت، وسعت خلف الأمان والتقدير… ولم تتوقف أبدًا عن المحاولة.
وختاما..
إن قرأت كلماتي، فاقرأها كما تقرأ رسالة جاءت متأخرة، رسالة من روح تتعثر، لكنها تأبى أن تسقط، اقرأني كما أنا، لا بطلة، ولا ضحية، بل إنسانة، صحفية تحاول أن تفسّر، أن تبقى، وإن لامستك هذه الكلمات، فاحملها معك، فربما كنتَ أنت أيضًا تبحث عن نفسك بين سطور الآخرين.. فتجدها.
